سورة سبأ - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} دروعا كوامل واسعات طوالا تسحب في الأرض، {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} والسرد نسج الدروع، يقال لصانعه: السراد والزراد، يقول: قدر المسامير في حلق الدرع أي: لا تجعل المسامير دقاقا فتفلت ولا غلاظا فتكسر الحلق، ويقال: السرد المسمار في الحلقة، يقال: درع مسرودة أي: مسمورة الحلق، وقدر في السرد اجعله على القصد وقدر الحاجة، {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} يريد: داود وآله، {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.


{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} أي: وسخرنا لسليمان الريح، وقرأ أبو بكر عن عاصم: الريح بالرفع أي: له تسخير الريح، {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي: سير غدو تلك الريح المسخرة له مسيرة شهر، وسير رواحها مسيرة شهر، وكانت تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين.
قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهر، ثم يروح من اصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع. وقيل: إنه كان يتغذى بالري ويتعشى بسمرقند. {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أي: أذبنا له عين النحاس، و{القطر}: النحاس.
قال أهل التفسير: أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وكان بأرض اليمن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان. {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} بأمر ربه، قال ابن عباس: سخر الله الجن لسليمان وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به، {وَمَنْ يَزِغْ} أي: يعدل، {مِنْهُمْ} من الجن، {عَنْ أَمْرِنَا} الذي أمرنا به من طاعة سليمان، {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} في الآخرة، وقال بعضهم: في الدنيا وذلك أن الله عز وجل وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته. {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} أي: مساجد، والأبنية المرتفعة، وكان مما عملوا له بيت المقدس ابتدأه داود ورفعه قدر قامة رجل، فأوحى الله إليه إني لم أقض ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي تمامه على يده، فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بناء بيت المقدس، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستخلصها له، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض من معادنه، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح، وجعلها اثنى عشر ربضا، وأنزل كل ربض منها سبطا من الأسباط، وكانوا اثنى عشر سبطا، فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد فوجه الشياطين فرقا فرقا يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر، وفرقا يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها، وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب من أماكنها، فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله عز وجل، ثم أحضر الصناعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلىء، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي وسقفه بألواح الجواهر الثمينة وفصص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، وكان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر، فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله عز وجل، وأن كل شيء فيه خالص لله، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا.
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثا فأعطاه اثنين، وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة، سأل حكما يصادف حكمه، فأعطاه إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه إياه، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وأنا أرجو أن يكون. قد أعطاه ذلك».
قالوا: فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بختنصر فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر، فحمله إلى دار مملكته من أرض العراق، وبنى الشياطين لسليمان باليمن حصونا كثيرة عجيبة من الصخر.
قوله عز وجل: {وَتَمَاثِيلَ} أي: كانوا يعملون له تماثيل، أي: صورا من نحاس وصفر وشبة وزجاج ورخام. وقيل: كانوا يصورون السباع والطيور. وقيل: كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة، ولعلها كانت مباحة في شريعتهم، كما أن عيسى كان يتخذ صورا من الطين فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله. {وَجِفَانٍ} أي: قصاع واحدتها جفنة، {كَالْجَوَابِ} كالحياض التي يجبى فيها الماء، أي: يجمع، واحدتها جابية، يقال: كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} ثابتات لها قوائم لا يحركن عن أماكنها لعظمهن، ولا ينزلن ولا يعطلنَّ، وكان يصعد عليها بالسلالم، وكانت باليمن.
{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} أي: وقلنا اعملوا آل داود شكرا، مجازه: اعملوا يا آل داود بطاعة الله شكرًا له على نعمه.
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} أي: العامل بطاعتي شكرًا لنعمتي.
قيل: المراد من {آل داود} هو داود نفسه. وقيل: داود وسليمان وأهل بيته.
وقال جعفر بن سليمان: سمعت ثابتًا يقول: كان داود نبي الله عليه السلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي.


{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} أي: على سليمان.
قال أهل العلم: كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها، وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يومًا إلا نبتت في محراب بيت المقدس شجرة، فيسألها: ما اسمك؟ فتقول: اسمي كذا، فيقول: لأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا، فيأمر بها فتقطع، فإن كانت نبتت لغرس غرسها، وإن كانت لدواء كتب، حتى نبتت الخروبة، فقال لها: ما أنت؟ قالت: الخروبة، قال: لأي شيء نبت؟ قالت: لخراب مسجدك، فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس! فنزعها وغرسها في حائط له، ثم قال: اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء ويعلمون ما في غد، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئًا على عصاه فمات قائمًا وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه، فكانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياته، وينظرون إليه يحسبون أنه حي، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان، فخر ميتًا فعلموا بموته. قال ابن عباس: فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب، فذلك قوله: {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ} وهي الأرضة {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} يعني: عصاه، قرأ أهل المدينة، وأبو عمرو: {منساته} بغير همز، وقرأ الباقون بالهمز، وهما لغتان، ويسكن ابن عامر الهمز، وأصلها من: نسأت الغنم، أي: زجرتها وسقتها، ومنه: نسأ الله في أجله، أي: أخره.
{فَلَمَّا خَرَّ} أي: سقط على الأرض، {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} أي: علمت الجن وأيقنت، {أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} أي: في التعب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حيًا، أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب، لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب، لغلبة الجهل. وذكر الأزهري: أن معنى {تبينت الجن}، أي: ظهرت وانكشفت الجن للإنس، أي: ظهر أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب، لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك، وفي قراءة ابن مسعود، وابن عباس: تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، أي: علمت الإنس وأيقنت ذلك.
وقرأ يعقوب: {تبينت} بضم التاء وكسر الياء أي: أعلمت الإنس الجن، ذكر بلفظ ما لم يسم فاعله، {وتبين} لازم ومتعد. وذكر أهل التاريخ أن سليمان كان عمره ثلاثًا وخمسين سنة، ومدة ملكه أربعون سنة، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6